المقالات
الخرائط الفورية والجغرافيا المكانية لم تعد حكرا علي الجيوش والحكومات ..ماذا تفعل التكنولوجيا؟
مع توّفر النظام العالمي لتحديد المواقع، والخرائط الفورية لحركة المرور، والتنبؤات الجوية الدقيقة، وشركة أوبر، والسيارات ذاتية القيادة … أصبحت البيانات الجغرافية المكانية هذه الأيام متاحة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع في جميع أنحاء العالم. وهي لا تشبه أي شيء سبق أن رأيناه. غير أنه لم يكن لأي من هذه الأمور أن يتحقق بدون الدور الرئيسي الذي تضطلع به الحكومة.
ومن الجدير بالذكر أن البيانات “الجغرافية المكانية” أو البيانات المستندة إلى المواقع موجودة بالفعل منذ مئات السنين – على سبيل المثال، في خرائط الشوارع والخرائط الطبوغرافية. أما الأمر المختلف اليوم فهو مدى سرعة جمع المعلومات الجديدة وإجراء التحليلات الأكثر تطوراً عليها، وذلك بفضل التقدم التكنولوجي.
والحقيقة أن ما كان يُعد يوماً معلومات يقتصر وجودها على دوائر الحكومة والجيش، وبعض الجهات المنتقاة من القطاع الخاص حتى حقبتي الثمانينيات والتسعينيات، فقد أصبحت تُستخدم على نطاق واسع على مدار السنوات العشرين الماضية. ومع تزايد تكنولوجيا الأجهزة المحمولة ووسائل الاتصالات، جعلت الهواتف الذكية المحمولة تحديد المواقع على الخرائط متاحاً للجميع، وبذلك جعلت التكنولوجيا الجغرافية المكانية في متناول أيدي كل فرد.
في صيف هذا العام، سافر عشرات الملايين من الأشخاص في الولايات المتحدة، من بينهم أحد كاتبي هذه المدونة، لمشاهدة الكسوف الكلي للشمس. ولم يكن الكسوف وحده رائعاً، بل أظهرت رحلة العودة من ولاية تينيسي إلى واشنطن العاصمة تكامل المعلومات الجغرافية المكانية وما لها من أثر في حياتنا اليومية.
وعند مغادرة ملايين الأشخاص منطقة الكسوف الكلي، أُتيحت لهم خيارات للطرق لتجنب أسوأ ما في حركة المرور – وكانت كلها ممكنة لأن الهواتف المحمولة لدى السائقين والركاب بها جميعاً تطبيق النظام العالمي لتحديد المواقع، مما يتيح المعلومات في الوقت الحقيقي لخرائط جوجل وخرائط آبل عن اتجاه السفر والسرعة وكثافة السيارات.
إن التكنولوجيات القائمة على تحديد المواقع تحدث ثورة في الاقتصاد. فمن تصفح حركة وسائل النقل العام إلى تتبع سلاسل التوريد وتخطيط طرق التسليم الفعالة، أصبحت الخدمات الرقمية المبنية على النظام العالمي لتحديد المواقع وبيانات الخرائط الحالية بالفعل جزءاً من الحياة اليومية وأنشطة التجارة.
لقد أوجدت الخدمات الجديدة قدرا هائلا من القيمة – وجعلت من الممكن استخدام قواعد بيانات المعلومات الجغرافية المكانية – وتم ربط الخرائط والمعلومات بها، مثل أسعار المنازل، ونسبة الإشغال، والبيانات الاجتماعية الاقتصادية.
لنأخذ الأردن مثالاً، حيث أتيحت الفرصة لأحد كاتبي هذه المدونة لرؤية التأثير عن قرب. ففي عمَّان، يوجد نحو 20 ألف سائق يعملون مع شركتي أوبر وكريم (وهي شركة على غرار شركة أوبر تعمل في الشرق الأوسط)، وكثير منهم كانوا من خريجي الجامعات الشباب العاطلين عن العمل. وتعتمد أنشطة الأعمال هذه على معلومات جغرافية مكانية دقيقة في الوقت الحقيقي. وقد ساعدت هذه الفرصة للعمل الكثيرين على البقاء في الأردن وأن يصبح لديهم عمل، وأن يكونوا منتجين، بل ويتمتعون بالاستقرار داخل مجتمعاتهم المحلية.
والحقيقة أن ما نشهده ما هو إلا النزر اليسير. وستشهد السنوات المقبلة تطوير العديد من التطبيقات الجديدة، التي ستعتمد على التكنولوجيا الجغرافية المكانية التي ستغير أسلوب عملنا، والطريقة التي نتفاعل بها مع بعضنا بعضاً، والوسائل التي ننتقل بها من مكان إلى آخر.
وهذه المنصات والتطبيقات المعلوماتية التجارية التي تتدرج صعوداً مدفوعة برغبات المستهلكين تعد مبتكرة ولها آثار كبيرة على المجتمع.
في ظاهر الأمور، يبدو أن رواد الأعمال، وخبراء التكنولوجيا، والمستهلكين الأذكياء هم كل ما هو مطلوب لتحفيز التوجه إلى اقتصاد القرن الحادي والعشرين.
غير أنه ليكتب النجاح لكل ذلك، تضطلع الحكومة بدور أساسي مهم – في وضع السياسات والأطر القانونية والتنسيق المؤسسي، وتوفير البنية التحتية الجغرافية المكانية، مثل إنشاء الشبكة الجيوديسية الأساسية (وهي نقاط بالغة الدقة توضع على سطح الأرض)، وجمع البيانات ورسم خرائطها ودمجها وتشاركها، على الصعيدين الوطني والمحلي.
كلما ازداد عددنا واستيعابنا للمعلومات الجغرافية المكانية، ازدادت أهمية دور الحكومة في توفير البنية التحتية الأساسية، والبيانات المرجعية الموثوقة، والقواعد اللازمة لضمان دقة المعلومات واتساقها وتشاركها واستخدامها بفعالية.
وبينما أحرزت معظم بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان تقدماً كبيراً في هذا المجال، لا يزال كثير من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل متخلفة عن الركب. ومن المؤسف أن الفجوة الرقمية الجغرافية المكانية آخذة في الاتساع يوماً بعد يوم. ومن الضروري اتخاذ إجراءات سريعة للحيلولة دون حدوث مزيد من التراجع في هذه البلدان.
وللمساعدة على سد هذه الفجوة الرقمية ودعم البلدان في مواكبة تكنولوجيا أفضل، إن لم يكن القفز إليها، يعمل البنك الدولي مع لجنة خبراء الأمم المتحدة لإدارة المعلومات الجغرافية المكانية العالمية (UN-GGIM) لوضع إطار لتوجيه البلدان المعنية في عملية تنفيذ أسس إدارة المعلومات الجغرافية المكانية على الصعيد الوطني.
ويمكن لأي بلد أن يطبق هذا الإطار على التخطيط للبنية التحتية والسياسات والإطار القانوني وآليات التنسيق المؤسسية اللازمة لجمع البيانات الجغرافية المكانية وتشاركها واستخدامها.
وسيحدد الإطار أيضاً دور الحكومة والقطاع الخاص، والأهم من ذلك، معايير البيانات لضمان قابلية التشغيل البيني والاتساق.
وعلى مدار الأشهر القليلة القادمة، ستُجرى مشاورات إقليمية في جميع أنحاء العالم بشأن الإطار، وأيضاً اختباره في بلدان مختارة بهدف اعتماد لجنة خبراء الأمم المتحدة لإدارة المعلومات الجغرافية المكانية العالمية هذا الإطار في اجتماعها المقبل في أغسطس 2018.
وبالتوازي مع ذلك، يتأهب البنك الدولي من أجل تقديم الدعم للبلدان المعنية لتنفيذ خطط العمل المتعلقة بالبنية التحتية الجغرافية المكانية، والسياسات والقوانين، وجمع مجموعات البيانات الأساسية.
وبوضع الإطار وخطط العمل الخاصة بكل بلد، يحدونا الأمل في عكس اتجاه الفجوة الرقمية الجغرافية المكانية. وسيستغرق تحقيق هذا الأمر سنوات عدة وسيتطلب بذل جهود كبيرة، غير أن وتيرة المعلومات والتكنولوجيا تعطي الأمل في سد هذه الفجوة بشكل أسرع من أي وقت مضى.
وبالإضافة إلى الدعم الذي تقدمه الحكومات، دعونا نمضي قدماً خطوة واحدة – أو قفزة واحدة – في كل مرة!
نقلا عن موقع البنك الدولي
آنا وينستون ..كبيرة استشاريين وخبيرة بالبنك الدولي ومسئولة عن مجموعة العمل في أوربا