المقالات

اللغة العربية.. بين التمرير والحبس


كائنات حية تلك هى حروف اللغة العربية كسائر لغات العالم التى لاكتها الألسنة على مر الدهور. سيطرت قوى قديمة على الأرض بقوتها الثقافية والفنية والعسكرية قبل مجئ النور الاسلامى إلى الأرض… بالطبع لم يكن للعرب أى قوة من أى نوع لترك بصمتهم مثل الفرس والرومان والاغريق على بقية شعوب الأرض… وحتى فى الماضى السحيق لم يكن لهم دور ملموس فى عصور البابليين فى العراق أو الفينيقيين فى الشام اللهم إلا بضع قرى متناثرة سموها إمارات كانت كلها إما موالية للفرس أو الرومان لم تتعد أبعد من ذلك.

توغل اللغات
فى هذه الفترة سيطرت اللغات الرسمية للإمبراطورية الرومانية والفارسية على سائر شعوب الأرض وساعدها فى ذلك عدة أمور منها القوة الاقتصادية التى تبلورت فى صك العملات التى تعاملت بها شعوب الأرض سواء بالدينار الرومانى أو الدرهم الفارسى… أو العامل الثقافى بشقيه الفنى والكتابى الذى غزا شعوبا بعيدة … وبالتالى فإن العرب المتاخمين للأمتين تعلموا مفردات اللغتين الفارسية والرومانية ليستفيدوا بطريقة أو بأخرى من الدولتين. 

الغول العربى الكامن
لم تكن الدولتان المتاخمتان للعرب تعرف للعرب قدرها ولم تحسب لقوتها حسابا يذكر.. لم يكن يدور فى خلدهم إلا حسابات القوة العسكرية التى تفرض الكلمة العليا على بقية الشعوب… إلا أن العرب كانت لهم من القوة الكامنة ما يؤهلهم لقيادة هذا العالم بعيدا عن عيون الفرس والرومان… هذه القوة كامنة فى اللغة التى تمكنت من أفئدتهم وصارت مختلطة بدمائهم.. الكل فيها سواء من غطفان وطئ وتميم وأزد وخزاعة.. من فهر وربيعة… من شيبان وابنى وائل بكر وتغلب.. من هذيل وعبس وذبيان من أفخاذ وبطون كل قبائل العرب.. من شتى بقاع الجزيرة من نجد وتهامة. . حجازهم ويمامتهم.. الكل سواء.. 

التمرير
استطاع العرب أن يستعملوا فن تمرير اللغة من جيل إلى جيل والتمرير هو نقل اللغة من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق … كما استطاعوا أن يحموا لغتهم من الإمبراطوريات المتاخمة لهم .. عن طريق العادات التى تركتها لغتهم فى نفسيتهم من الحمية والحماسة والغيرة فضلا عن اعتقادهم فى العار الذى يلحق المختلطين منهم بالدول الأخرى ومن يستعمل لغتهم… وهذا التمرير استغرق من العرب ثلاثة مراحل فى كل مرحلة زادوها جمالا وسلموها أنقى وأفصح من بدايتها.

المرحلة الأولى
كانت هذه المرحلة هى أولى مراحل التمرير وسماها العلماء مرحلة التهذيب الأول وكانت على يد قبيلة جرهم التى استطاعت تهذيب اللسان العربى الذى بدأ بانتشار أوسع فى أجزاء كبيرة من شبه جزيرة العرب.. لكن هذه المرحلة كانت بداية نهوض للغة لتأخذ مكانتها بين المتحدثين بها
المرحلة الثانية.
كانت على يد القبائل العربية المهاجرة من اليمن التى تبارت مع بقية القبائل فى وصف الطبيعة واستعمال اللغة كسيف يلهب الحمية وتبارت القبائل فى هذه المرحلة فى تقديم ابداعتها فى شتى نواحى البيان وبدأت اللغة فى الوضوح أكثر وأكثر من المرحلة السابقة 
المرحلة الثالثة
هذه المرحلة هى المرحلة التى استوى فيها المارد اللغوى على سوقه … حيث قبيلة فهر بن غالب … وما أدراك ما قبيلة فهر غالب.. التى ملكت مكة بعد خزاعة … أقامت فهر إمبراطورية مصغرة فى مكة فى قمة الازدهار التجارى حيث مهارتهم فى جلب البضائع من اليمن والشام فكانت قبلة العرب من كل حدب وصوب.. فكانت هنا كعبة العرب التى اليها من كل حدب ينسلون … يحجون ويتبركون ويتاجرون… ولم تنس فهر أن يحلبوا خلاصة اللغة من القبائل فأقاموا لهم الخيام لعرض منتجاتهم اللغوية من شعر ونثر… أخذوا منهم كل جميل من لفظ .. وتركوا ما استغلظوه من القول … هنا قريش … انت ايها الشاعر هات ما عندك … انت ايها الخطيب ماذا جادت قريحتك؟ ألقت الجزيرة العربية بفلذات أكباد لغتها لدى قريش .. فكانت قريش نعم المكرم للغة .. حتى غدت اللغة العربية هى درة اللغات .. وهنا بدأ الغول اللغوى يدك حصون النفس البشرية بالحقيقة مرة والخيال الرهيب من استعارة وكناية ومجاز مرات … بدأ اللغة فى التجمل كعروس بجناسها وطباقها ومقابلتها وتوريتها وسائر محسناتها …. مررت قريش سائر اللهجات العربية فى لغة واحدة معترف بها من كل العرب .. من يخالفها فهو مارق ومحكوم عليه بالضيق اللغوى لا محالة… من هنا بدأت الإمبراطورية التى سادت الثقافة العالمية إلى الآن وهى ملحمة تمرير اللغة من جيل إلى جيل 
حبس اللغة
توجد فى العالم الآن 7102 لغة حية يتحدث بها العالم فى قاراته جميعاً … منها اللغات التى تشكل الثقافات العالمية مثل الصينية والأردية والروسية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية والألمانية والبنغالية… فى العصر الحاضر تم حبس اللغة العربية فى المربع الأوسط من العالم …من زاويتين … الأولى حصرها فى هذا المربع لتتقوقع على نفسها فى داخل الدول العربية الناطقة بها ومعها دولة مالى التى تتحدث نفس اللغة … أما الزاوية الثانية وهى الأخطر فهى سلب الجمال الذى تميزت بها وقتل هذا الكائن الذى كون هذه اللغة عبر العصور عن طريق ازاحتها من مكانتها السامية وإقامة اللغات الأجنبية مكانها بحجة أن الثقافة الانجلوسكسونية والفرانكوفونية هى السائدة وهى لغة العلوم الحديثة… انتبهوا أيها السادة … اللغة العربية كائن حي تربى على مر العصور … هو قابل للتطور وقابل للعلة والوفاة …هذه اللغة مرنة فتية توجد بداخلها أسباب قوتها … يوجد فى محيطها من يستطيع حمايتها ويحافظ على مجدها …. حافظوا على لغتكم التى ورثتموها فتية قوية … سلموها لخلفكم أقوى مما اخذتموها من سلفكم…. هى لن تموت … لكن لا تتركوها تصارع المرض.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى