العالم
بريطانيا ..عجوز اوربا التي اتهمها ديجول بالولاء لامريكا علي حساب الاتحاد

الاستمرار في البيت الأوروبي أو الطلاق، هذا هو أهم التحديات التي تميز الانتخابات التشريعية البريطانية هذا العام التي يتنافس فيها الحزبان التقليديان «العمال » و «المحافظون » بالإضافة إلى أربعة أحزاب صغيرة حققت اختراقا ملحوظا بفضل التصويت العقابي ضد العمال والمحافظين، وهذه الأحزاب الصغيرة هي « الحزب الليبرالي الديمقراطي » و « حزب الاستقلال » و « الحزب الانفصالي الاسكتلندي » بالإضافة إلى « حزب الخضر ».
ومن المنتظر أن تلعب الأحزاب الصغيرة في بريطانيا دورا في تشكيل تحالفات ما بعد الانتخابات لأن البريطانيين عزفوا عن منح الغالبية المطلقة للحزبين التقليديين. وهكذا أصبحت المزايدة على ملف الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وملف الهجرة ورقتان أساسيتان رفعهما رئيس الوزراء وزعيم « التوريز » ديفيد كامرون لاستمالة ناخبي « حزب الاستقلال » المتطرف والمعادي لعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
ومهما تكن إستراتيجية الانتخابات إلا أن استطلاعات الرأي تشير بأن دفة الحكم ستميل نحول العمال وزعيمهم الشاب تيد مليباند. ولكن الاستطلاعات ليست بالقول الفصل خاصة وأنها أخطأت أكثر من مرة وآخرها في الانتخابات الإسرائيلية التي فاز بها رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو عكس كل التوقعات.
أوروبا ديغول لم تكن أوروبا تشرتشل
لا بأس هنا أن نذكر بأهم محطات علاقة الغرام والخصام بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، فقد كانت البدايات العام 1946 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عندما تحدث رئيس الوزراء البريطاني آنذاك وينستون تشرتشل عن "الولايات المتحدة الأوروبية"،
لكن الحلم الأوروبي الذي عبر عنه تشرتشل لم يكن نفسه حلم فرنسا ديغول ولا حلم ألمانيا أديناور. وقد أغلقت فرنسا الباب أمام عضوية بريطانيا حتى العام 1973 بسبب عدم ثقة الجنرال ديغول في البريطانيين واعتقاده بأن ولاءهم ليس أوربيا بقدر ما هو ولاء أطلسي ينضوي تحت راية الحليف الأمريكي.
وللمفارقة فإن حزب المحافظين الذي يلوح اليوم بالاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، أيد في البدايات انضمام بريطانيا مقابل معارضة شديدة من حكومة الظل العمالية آنذاك التي رفضت بشدة الالتحاق بالركب الأوروبي إلى درجة إصدار بيان اشتهر باسم بيان 1983 يدفع فيه زعيم العمال آنذاك ميكائيل فوت بضرورة العمل على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
سياسة الاستثناءات
وبوصول المرأة الحديدية مارغريت ثاتشر إلى سدة الحكم عام 1979 بدأت مرحلة جديدة من الشد والجذب بين زعيمة المحافظين والاتحاد الأوروبي، حيث سعت ثاتشر المعروفة بعبارتها الشهيرة «أعد لي نقودي» إلى تصحيح ما أسمته بالظلم الذي لحق ببريطانيا التي كانت تساهم في الميزانية الأوروبية ولا تحصل على مزايا السياسة الزراعية الأوروبية التي تتمتع بها كل من فرنسا وألمانيا. واستطاعت ثاتشر بالفعل استعادة نقودها وزيادة، كان ذلك في عام 1984 حيث منح الاتحاد الأوروبي للبريطانيين تخفيضا في المساهمة المالية أقل مرتين بالنسبة التي يدفعها باقي الدول الأعضاء.
ويبدو أن سلسلة الاستثناءات الممنوحة لبريطانيا لم تتوقف فقد أقرت المفوضية الأوروبية عام 1999 إعفاء المملكة المتحدة والدنمارك من المشاركة في العملة الأوروبية الموحدة وفضاء « تشينغن » لحرية التنقل.
وفي أبريل 2004 جاء الدور على العمال وزعيمهم توني بلير الذي يعد أكثر البريطانيين ميلا لأوروبا ولكنه خضع لضغوط الصحف المحافظة المملوكة لبارون الصحافة روبيرت موردوك، لكي يقترح استفتاء على اتفاقية توسيع الاتحاد الأوروبي، إلا أن بلير وفي الوقت نفسه أعطى تعليمات لحزبه لعرقلة التصويت على إقرار هذا الاستفتاء في مجلس العموم.
في عام 2006 تم إنشاء حزب معادي لأوروبا تحت عنوان عريض « من الأحسن الخروج من المجموعة » وفي العام 2008 طالب نيك غليك زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي، حليف المحافظين في حكومة كاميرون، طالب باجراء استفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وفي العام 2009 حقق حزب الاستقلال المتطرف المعادي لأوروبا اختراقا في الانتخابات الأوروبية وتبوأ المرتبة الثانية بنسبة 16 بالمائة من الأصوات، حتى أنه حسن نتيجته بعشر نقاط في الانتخابات الأوروبية الأخيرة عام 2014. الأمر الذي وضع ديفيد كاميرون زعيم التوريز أمام معادلة سياسية وانتخابية جديدة جعلته يحمل بدوره شعار الاستفتاء على البقاء في البيت الأوروبي بحلول العام 2017 ووعد بإعادة التفاوض على وضع خاص بين الإتحاد الأوروبي والجزيرة البريطانية.
مهما يكن من حسابات السياسة، إلا أن المعطيات الاقتصادية تشير إلى استفادة بريطانيا الكبيرة من المساعدات الأوروبية في جميع المجالات، وقد يكون الجنرال ديغول محقا في اعتبار أن ولاء بريطانيا الأول ليس لأوروبا ولكن ولاءها يبقى أولا وأخيرا لمملكة صاحبة الجلالة.
بريطانيا الحريصة على جغرافيتها كجزيرة تحيط بها البحار، حريصة أكثر على الاحتفاظ بعملتها الوطنية وبقوانينها وأنظمتها بمعزل عن تلك السائدة في سائر دول الاتحاد الأوروبي، فهي رفضت ولا تزال ركوب قطار العملة الأوروبية الموحدة واعتماد اليورو بديلا عن عملتها الوطنية والتاريخية أي الجنيه الإسترليني.
حين انفجرت أزمة الديون اليونانية وبدأ الحديث بالتكاثر عن احتمال خروج أو إخراج اليونان من منطقة اليورو، لم يتوانى رئيس الوزراء البريطاني المنتهية ولايته دايفيد كامرون عن القول بان بريطانيا لن تنضم إلى منطقة اليورو لأن ذلك يتعارض مع مصالحها..هذا الرأي الذي يتقاسمه كاميرون مع معظم رؤساء الحكومات السابقين وربما ألاحقين ، يؤشر إلى حد كبير على شعور جارف لدى البريطانيين مفاده أن بريطانيا العظمى وريثة إمبراطورية لم تكن الشمس تغرب عن أراضيها ، هي اكبر من أن تختصر بمجرد دولة عضو في الاتحاد الأوروبي!
ومن هنا تميزت سياساتها الخارجية بالتطلع إلى ما وراء الأطلسي أي بالتحالف السياسي والعسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية ولو تعارض ذلك مع بعض جوانب السياسات الخاصة بالاتحاد الأوروبي..
سياسة الحذر من أوروبا المنتهجة من قبل كاميرون وأسلافه لم تكبح جماح المشاعر المعادية جذريا للاندماج الأوروبي والتي تجتاح قطاعات واسعة من البريطانيين.