كشفت وثائق بريطانية أن بريطانيا كانت وراء إجهاض سعي مصر إلى الحصول على قرض من البنك الدولي لتنفيذ أكبر مشروع لتطوير قناة السويس قبل 65 عاما
وتشير الوثائق، التي اطلعت عليها، إلى أنه كان للجيش البريطاني دور مؤثر في اتخاذ لندن قرار الاعتراض على التمويل الدولي للمشروع الذي جاء بعد عامين فقط من تأميم شركة قناة السويس.
في 26 ديسمبر/كانون الأول عام 1956، أمم الزعيم المصري جمال عبد الناصر شركة قناة السويس، لتسيطر مصر على الممر المائي لأول مرة في تاريخها. وتسبب القرار في أزمة السويس التي كان انسحاب الإمبراطورية البريطانية من الشرق الأوسط أحد أكبر نتائجها.
وفي شهر يونيو/حزيران عام 1958، شرعت مصر في التخطيط لمشروع طموح لتطوير القناة بهدف تعظيم الاستفادة من الممر الملاحي العالمي في تنفيذ مشروعات التنمية الوطنية.
وحذرت هيئة التخطيط من أنه "نظرا لأن دول الحلف تعاني دائما نقصا في الأموال اللازمة للأغراض العسكرية والمدنية على السواء، وكذا هو الحال بالنسبة للدول الأخرى التي ترتبط بها الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط، فإننا نعتقد بأن قرضا لمصر يتراوح ما بين 120 و200 مليون جنيه استرليني، وسيكون للولايات المتحدة أو المملكة المتحدة دور فيه، سوف يُعتبر من جانب حلفاء المملكة المتحدة وأصدقائها في الشرق الأوسط ترضية صارخة" لمصر.
وأكد أن هذا "سوف يقوض أهداف واستراتيجية المملكة المتحدة في الشرق الأوسط".
من الناحية العسكرية، قلل التقرير العسكري من أهمية القناة في ظل توفر الأسلحة النووية إن نشبت حرب عالمية.
وقال "مع وجود أسلحة نووية، تتوقف قناة السويس عن كونها ذات أهمية كبرى في التخطيط لحرب عالمية".
وحتى في حالة اندلاع حرب محدودة، ووجدت بريطانيا نفسها طرفا فيها، فإن القناة لن تكون، وفق توقعات رؤساء الأركان، متاحة لاستخدام الجيش البريطاني.
وقال التقرير إنه في حالة نشوب حرب كهذه، فإنها سوف تشمل بالتأكيد تقريبا دولتي الاتحاد العربي (المملكة العراقية والمملكة الأردنية الهاشمية) ، ولهذا "فإن قناة السويس سوف تُمنع عن المملكة المتحدة وحلفائها"، ولن يكون هناك "ضمان بشأن إمكانية استخدام القناة لإرسال تعزيزات".
واستبعد "إمكانية منع المصريين من إغلاق القناة أمام حركة الشحن البريطانية في أي وقت يريدون".
وخلص التقرير، في توصياته النهائية، إلى أن استراتيجية المملكة المتحدة العسكرية "لم تعد تعتمد على استخدام قناة السويس، ولذا فإن التطوير المقترح ليس لديه جانب عسكري كبير، غير تأثيره على حلف بغداد".
وأضاف: "سوف يتأثر حلف بغداد، واستراتيجية المملكة المتحدة وأهدافها في أنحاء الشرق الأوسط، تأثرا خطيرا بمشاركة المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة في القرض المقترح لمصر".
وبعد مشاورات مكثقة، انتهت وزارة الخارجية البريطانية إلى تقييم مماثل استدعى السعي إلى إقناع الولايات المتحدة ودول أخرى، مثل كندا واستراليا ونيوزيلندا، برفض طلب القرض المصري.
وفي برقية إلى ممثلي بريطانيا في الدول الأربع، قالت وزارة الخارجية إن "مثل هذا التطوير الضخم (لقناة السويس) سيكون له فائدة اقتصادية قليلة، أو هو عديم الفائدة، للمملكة المتحدة والدول الغربية الأخرى".
إعجاب بالمصريين"
وفي هذه البرقية، التي صنفت بأنها عاجلة وبالغة السرية، نبهت الخارجية إلى التوجس من أن المناخ داخل أروقة البنك الدولي ربما يميل إلى الاستجابة إلى الطلب المصري.
وأشار إلى أن الجنرال ريموند ألبرت ويلر، قائد سلاح المهندسين السابق بالجيش الأمريكي ومستشار البنك الدولي، يؤيد المشروع المصري بعد دراسة أجراها على نفقة البنك.
تألفت الخطة، التي أطلق عليها اسم "مشروع ناصر"، من ثلاث مراحل. هدفت المرحلة الأولى إلى زيادة عمق القناة كي تستوعب السفن ذات الغاطس الذي يصل إلى 37 قدما بدلا من 35 قدما. وسعت المرحلة الثانية إلى تعميق الممر الملاحي إلى 40 قدما. أما المرحلة الثالثة فقد طمحت إما إلى توسيع القناة بقدر كبير، وإما إلى حفر قناة موازية كي يسهل مرور السفن في الاتجاهين في وقت واحد، وهو الأمر الذي كان من شأنه زيادة حركة المرور في القناة، وبالتالي زيادة الدخل من العملة الصعبة.
ترضية "صارخة"
بمجرد تأكيد السفارة البريطانية في القاهرة عزم الحكومة المصرية التقدم بطلب الحصول على قرض، تترواح قيمته بين 120 مليون و200 مليون جنيه استرليني، من البنك الدولي، طلبت الحكومة البريطانية من الجيش البريطاني تقييم المشروع من الناحية الاستراتيجية.
أحال وزير الدفاع الملف إلى لجنة رؤساء الأركان في القوات المسلحة، التي طلبت من هيئة التخطيط العسكري بها إعداد تقرير شامل بشأنه.
وبعد دراسة المشروع، الذي طرحته مصر في أعقاب تسويتها خلافاتها المالية مع الغرب التي نتجت عن قرار تأميم شركة قناة السويس، انتهت هيئة التخطيط إلى توصية الحكومة برفضه والسعي إلى منع البنك الدولي من تمويله.
وفي تقرير بعنوان "الجوانب العسكرية لتطوير قناة السويس"، قال وزير الدفاع البريطاني، الذي رُفع إليه التقرير النهائي، إن "رؤوساء الأركان شددوا على أنه ليست هناك مزايا عسكرية في الاقتراح.... هناك اعتراضات عسكرية قوية للغاية عليه".
وبناء على معلوماتها، قالت هيئة التخطيط، في تقريرها، إنه "من المرجح أن يتيح المشروع (حفر) قناة إضافية، وعلى ما يبدو عمقا مسموحا به هو 37 قدما".
وكان هذا يعني حاجة مصر إلى تمويل كبير، سوف تسهم فيه بريطانيا باعتبارها مساهما كبيرا في البنك الدولي.
وحذر التقرير من أن هذا سيهدد حلف بغداد ويثير غضب دوله التي تعول عليها سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط. وكانت بريطانيا تراهن على الحلف، المكون من العراق وإيران وباكستان وتركيا، في مواجهة المد السوفيتي الشيوعي في المنطقة.
وجاء في التقرير أن: "استراتيجية المملكة المتحدة في الشرق الأوسط تقوم على أسس منها دعم حلف بغداد".
وفي هذا الوقت لم تكن الولايات المتحدة تساهم بما يكفي في دعم دول الحلف، بينما بلغ الدعم البريطاني 500 ألف جنيه استرليني سنويا، إضافة إلى منحة سنوية قيمتها 30 ألف جنيه استرليني مخصصة لتمويل مشروعات تدريب لعسكريين من دول حلف بغداد في المملكة المتحدة.
